يحيى عبد اللطيف عياشحين يكتب تاريخ فلسطين –الشعب والقضية- بأيد منصفة وأمينة ستدرك الأجيال المتعاقبة أن يحيى عياش أو (المهندس) كما عرف في حياته يحتل مكانا بارزا بعد أن سطر ملحمة تاريخية خالدة من أجل دينه ووطنه وقتل في سبيل الله ومن أجل فلسطين فوق أرضية صلبة من الفهم العميق بطبيعة القضية الفلسطينية.
فقد أدرك يحيى معادلة التعامل مع العدو منذ أن لمست يداه أول سيارة مفخخة أعدها لاستنهاض الشعب الفلسطيني بكافة قطاعاته ومختلف تياراته نحو مقاومة شاملة للاحتلال الذي لا يفهم إلا لغة المقاومة ومفردات القوة. ولذلك أعلن زعماؤه وقادته يأسهم واعترفوا قائلين: "ماذا نفعل لشاب يريد الموت".
"المهندس" هو عنوان الأسطورة الفلسطينية الحقيقية التي جددت الأمل وقتلت اليأس وأعادت الحياة إلى روح الجهاد والمقاومة في فلسطين. بما كتبته من صفحات مشرقة في حكاية الصمود والجهاد البطولي في ظل أسوأ الظروف.
وقصة المهندس معروفة ومحفوظة بمداد الحب والإكبار في قلوب معاصريه، واسمه تردد بشكل دائم في كل حارة وبيت وعلى كل شفة ولسان في أرجاء المعمورة وذكره مئات الملايين من العرب والمسلمين عندما أظلمت الدنيا واشتدت الأزمات وفاضت على وجوههم مظاهر الألم والقهر والإحباط.
لقد عرف يحيى عايش موطن ضعف عدوه، ومكمن قوة شعبه، فاستغل معرفته لإعادة جزء من التوازن المفقود للقوى بين شعبه الأعزل وعدوه المدجج بأحدث آلة عسكرية، عن طريق نقل الصراع من ساحة المادة الضيقة إلى ميدان المعنويات الأرحب فأصبح الصراع بين عدو مكبل بالخوف من الموت وشعب يعشق الموت في سبيل الله لنيل حريته. ولأن للبطولة طعم آخر في اللحظات الحاسمة فإن يحيى عياش يكاد يتفرد بين أبطال الشعب الفلسطيني فقد جاء في ذروة الانهيار ليعلن أن الشعب الذي تحفر القبور لدفن قضيته ما زال مفعما بالحياة، وأن مقولات اليأس الرسمية ليست أكثر من رماد يواري الجمر المتقد في أتون الشعب.
في عمره القصير صنع يحيى عياش الكثير فقد أدرك منذ البداية أنه يسابق الزمن حين قرر العمل على نسف جدار الأمن الشاهق الذي أقامه الصهاينة مستغلين ترسانتهم العسكرية وخبراتهم المتراكمة في مواجهة شعب أعزل محاصر، وكان مبادرا حيث لا فائض من الوقت لدى شعب يعيش واحدة من أكثر مراحل تاريخه المعاصر حرجا. فعاش هذا العملاق لشعبه ودينه ومن أجلهما، ورحل في وقت كان يتصارع فيه البغاث على فتات يظنون أنه مغانم حرب وضعت أوزارها.
إن هذه الشخصية المتميزة في عطائها وقدرتها على المبادرة والتجديد تستحق أن نقف عندها وقفة متأملة فاحصة نستطلع حياتها ومكامن العظمة في شخصيتها ونقوم تجربتها الرائدة ونستخلص العبر من مسيرة عطائها الحافلة بالتضحيات في سبيل الرسالة التي آمنت بها ونذرت نفسها وحياتها لتحقيقها.
ولئن جسد يحيى عياش حالة الشاب القروي البسيط الذي كان من الممكن أن يكون لغيره من الآلاف الذين يحملون الشهادة الجامعية مهندسا عاديا يعمل في إحدى الشركات أو الورش ويتقاضى راتبا مرتفعا في إحدى الدول، إلا أن بطلنا تغاضى عن هذا كله وقفز فوق كل الحواجز وتمسك بإسلامه وقضيته فكانت المقاومة والجهاد حبه الكبير الذي أعطاه عصارة أفكاره وعاطفته مجسدا في الوقت نفسه القدرة على الفعل الحقيقي بعيدا عن الأضواء.
لم يكن المهندس يبحث عن دور تاريخي بقدر ما كان الدور التاريخي يبحث عن قائد، ولم يكن نجوميا يبحث عن الشهرة بقدر ما كانت الجماهير تائقة إلى بطل تلتف حوله يعيد للأيام بهجتها وللحياة طعمها وللإسلام انتصاراته وشموخه. ولأن نماذج القادة الذين تنتجهم حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لا يركبون موج الصدفة ولا يتسلقون حبال العشوائية، أو يركبون أحضان المستجدات بل هم دائما على موعد دقيق مع أقدارهم وعلى أهبة الاستعداد لأداء دورهم في حيز الفعل والوجود ثم الرحيل بشموخ مع إشراقة الشمس.
مسيرة التاريخ ورحلة الحياة
بين أزقة قرية رافات وفي السادس من آذار/مارس، سنة 1966م ولد يحيى عبد اللطيف عياش، وفي كنف بيت متدين عاش طفولة هادئة إذ كان مثالا للطفل المؤدب الهادئ حتى أن أحد أعمامه يقول: "كان هادئا أكثر من اللزوم ولا يحب الاختلاط كثيرا بغيره من الأطفال حتى أنني كنت أعده انطوائيا بعض الشيء"
كبر الطفل يحيى ودخل المدرسة الابتدائية في قريته عند بلوغه السادسة من عمره وبرز بذكائه الذي لفت إليه أنظار معلميه إذ أنه لم يكن يكتفي بحفظ الدروس المقررة للصف الأول بل كان يحفظ دروس الصف الثاني أيضا.
حصل يحيى على شهادة الدراسة الثانوية من مدرسة بديا الثانوية عام 1984م وكان معدله 92,8% والتحق بجامعة بيرزيت لدراسة الهندسة الكهربائية وكان من أنشط الشباب في كلية الهندسة ضمن إطار الكتلة الإسلامية وشارك إخوانه في كافة المواقع ومراحل الصراع والاحتكاكات المباشرة سواء مع سلطات الاحتلال أو مع الكتل الطلابية المنافسة.
تخرج من الجامعة عام 1991م بتفوق وتزوج من ابنة خالته بتاريخ 9 أيلول/سبتمبر، 1992م ورزق منها طفله الأول براء في 1 كانون الثاني (يناير) 1993م وكان حينها مطاردا، وقبل استشهاده بيومين فقط رزق بابنه الثاني عبد اللطيف تيمنا باسم والده غير أن العائلة أعدت يحيى إلى البيت حين أطلقت على الطفل عبد اللطيف اسم يحيى.
شيخ الإخوان في رافات
لبى يحيى عياش دعوة الإخوان المسلمين وبايع الجماعة في بداية العام 1985م وأصبح جنديا مطيعا وعضوا عاديا بإحدى أسر الإخوان المسلمين في مدينة رام الله وعمل بجد ونشاط وقام بكافة التكاليف وأعباء الدعوة الإسلامية سواء داخل الجامعة أو في مدينة رام الله أو قريته رافات ووظف المهندس سيارة والده التي اشتراها في خدمة الحركة الإسلامية حين دأب على السفر إلى رافات وقام بإرساء الأساسات وشكل أنوية لمجموعات من الشباب المسلم الملتزم. وحينما انفتح الأفق على حركة المقاومة الإسلامية حماس كانت هذه المجموعات في طليعة السواعد الرامية خلال سنوات الانتفاضة المباركة الأولى ونظرا للدور الريادي الذي قام به وحكمته وأدبه وأخلاقه فقد اعتبرته الفصائل الفلسطينية (شيخ الإخوان في رافات) ترجع إليه في كافة الأمور التي تتعلق بالفعاليات أو الإشكاليات خلال الأعوام (1988-1992).
ابن كتائب الشهيد عز الدين القسام
ترجع بدايات المهندس مع العمل العسكري إلى أيام الانتفاضة الأولى وعلى وجه التحديد عامي 1990-1991م إذ توصل إلى مخرج لمشكلة شح الإمكانات المتوفرة وندرة المواد المتفجرة وذلك بتصنيع هذه المواد من المواد الكيماوية الأولية التي تتوفر بكثرة في الصيدليات ومحلات بيع الأدوية والمستحضرات الطبية فكانت العملية الأولى بتجهيز السيارة المفخخة في رامات إفعال وبدأت إثر ذلك المطاردة المتبادلة بين يحيى عياش والاحتلال الصهيوني وأجهزته الأمنية والعسكرية.
إذ قدر الله سبحانه وتعالى أن يكتشف العدو السيارة المفخخة في رامات إفعال بطريق الصدفة، وبعد تحقيق شديد وقاس مع المجاهدين الذين اعتقلا إثر العثور على السيارة المفخخة طبعت الشاباك اسم يحيى عبد اللطيف عياش في قائمة المطلوبين لديها للمرة الأولى.
يعتبر يوم الأحد 25 نيسان أبريل 1993م بداية المطاردة الرسمية ليحيى عياش ففي ذلك التاريخ غادر المهندس منزله ملتحقا برفاق الجهاد والمقاومة وفي مساء ذلك اليوم داهمت قوات كبيرة من الجيش والمخابرات المنزل وقامت بتفتيشه والعبث بالأثاث وتحطيم بعض الممتلكات الشخصية للمهندس، وبعد أن أخذ ضباط الشاباك صورة الشهيد جواد أبو سلمية التي كان المهندس يحتفظ بها توجه أحدهم إلى والده مهددا "يجب على يحيى أن يسلم نفسه وإلا فإنه سيموت وسوف نهدم المنزل على رؤوسكم" وتواصلت المداهمات والاستفزازات من قبل جيش الاحتلال وأجهزته بهدف إشاعة جو الخوف والرعب بين العائلة القروية اعتقادا بأن ذلك يؤثر في معنوياتهم ويثني المهندس عن مسيرته المباركة ولكن هيهات لهم ذلك فقد واصل المهندس طباعة عناوين المجد والحرية وأعاد للحياة الفلسطينية طعمها. وخلال ثلاث سنوات كان الشهد لفلسطين والعلقم لبني صهيون وخاب ظن سلطات الاحتلال وأجهزتها القمعية التي حصدت الفشل في مخططاتها وتخبطت في رحلة البحث عن المهندس بينما وقفت أم يحيى في فخر واعتزاز تواجه محققي الشاباك وجنود الاحتلال حيث نقلت صحيفة يديعوت أحرونوت العبرية والتي رافقت قوات الجيش التي داهمت منزل العائلة بعد عملية البطل صالح صوي في تل أبيب عن أم المهندس "لقد تركنا جميعا دون أن نشبع منه ومنذ أن أصبح يحيى مطلوبا فإنه لم يعد ابنا لي إنه ابن كتائب عز الدين القسام"
توقيت جريمة الاغتيال
لنحو أربع سنوات وضع اسحق رابين الذي تعامل مع المهندس بصفته خصما له ملف تصفية القائد القسامي على رأس أولويات حكومته السياسية والأمنية ولكن إحدى مفاجآت هذا الملف كانت في مقتل رابين على أيدي متطرف يهودي قبل أن تتمكن أجهزة الاستخبارات الصهيونية من اغتيال المهندس وبذلك أضيفت فضيحة أخرى لملفات تلك الأجهزة التي كانت تصورها الدعاية الصهيونية بأنها أجهزة خارقة تكتشف الأحداث قبل وقوعها وتستطيع الوصول إلى ما تريد بأقل جهد وأسرع وقت وكان لاهتزاز ثقة الشارع الصهيوني بتلك الأجهزة آثارا مقلقة على القيادات الأمنية والعسكرية فلا هي تمكنت من حماية رئيس الوزراء وأهم شخصية لديهم ولم تستطع القبض على عدوها الأول أو قتله وهو الذي أثار الهلع في قلوب الصهاينة المحتلين، وللخروج من حالة انعدام الوزن الذي أوقف أجهزة الأمن الصهيونية على حوافها كان لابد من القيام بفعل خارق يعيد الاعتبار لتلك القيادات داخل المؤسسة السياسية والأمنية في الدولة الصهيونية ولعل هذا ما يفسر رفض شمعون بيرز استقالة الجنرال كارمي غيلون "رئيس الشاباك" إثر اغتيال رابين مباشرة ثم قبولها بعد يومين فقط من تنفيذ جريمة اغتيال المهندس.
وفي الوقت الذي اعتبرت فيه جريمة اغتيال المهندس سببا في إعادة الثقة في أجهزة الأمن الصهيونية وتطمين الشارع الصهيوني بأن عدوه قد جرى التخلص منه وأن الانتقام قد نفذ ممن أراق الدم الصهيوني كما ردد قادة الاحتلال دائما فإن هناك هدفا لا يقل أهمية بل كان أكثر أهمية وهذا الهدف يتمثل في جعل المهندس عنوانا لمرحلة جديدة (لا مخربين فيها) خاصة أن اغتيال المهندس قد سبقه تصفية قادة عديدين مثل فتحي الشقاقي وهاني عابد وكمال كحيل وإبراهيم النفار ومحمود الخواجا وغيرهم وعليه كان ثمة رسالة صهيونية خلف جريمة اغتيال المهندس خلاصتها أن زمن الفدائيين والأبطال قد انتهى وهذا هو زمن القبول بالكيان الصهيوني والتعامل معها بواقعية.
وعلى الرغم مما روجت له سلطات الاحتلال الصهيونية فإن هناك كثيرين في الجانب الصهيوني لم يكونوا مقتنعين بأن اغتيال المهندس سيوقف الجهاد والمقاومة وينهي الكفاح المسلح.
وعلى الصعيد الفلسطيني فإن جريمة الاغتيال أعطت حركة المقاومة الإسلامية حماس فرصة لاستعادة نشاطها العسكري فالصهاينة هم المعتدون وهم الذين صعدوا والاغتيال نفذ في غزة وانطلاقا من كل ذلك فإن معسكر المقاومة قد ربح برغم الخسارة الكبيرة بفقدان الشهيد ولعل تنفيذ تلاميذ المهندس للعمليات الاستشهادية الأربع خلال فترة زمنية قصيرة "عشرة أيام" يعد تأكيدا لما سبق رغم قساوة الظروف التي مرت بها تنفيذ تلك العمليات.
جمعة الشهادة
إنه يوم الجمعة الحزينة 15 شعبان، 1416هـ الموافق الخامس من كانون الثاني يناير 1996م التي لم تكن كأي جمعة فما أن أذاع تلفزيون العدو نبأ الاغتيال فاهتزت فلسطين بكل أرجائها ودبت قشعريرة وسرى شعور حزين وحاولت القلوب الفزعة أن تكذب أو تشكك، واهتزت الكلمات في الحناجر حين أعلنت حماس توقف عقل الفتي العاشق وسكنت نبضات قلبه.
فبكى كل شيء في فلسطين حتى كاد طوفان الدمع أن يغرق شوارع غزة وحارات نابلس وطولكرم والخليل. ومر ليل الجمعة الباكية ثقيلا على الجبال والوديان والناس بينما سكنت الأمواج في انتظار حزين وفي الصباح تراكض الباحثون عن وطن نحو رافات يعانقون جدران منزل المهندس متوعدين بالثأر ومؤمنين على دعاء أم يحيى (قلبي وربي راضين عليك) وكم تمنى أولئك لو أنهم تشرفوا بتشييعه أو على الأقل مشاهدة وجهه أو ملامسة كفه فيتعلمون كيف يضرب وكيف يصنع لنا الحياة.
الشعب كله صار يحيى، وصار يحيى الشعب كله فعظمة الشهادة والإنجاز أبت أن يكون المهندس ابن رافات وحدها ولا ابن حماس دون غيرها فكما كان عمله وحياته لكل فلسطين من بحرها لنهرها جاء استشهاده ليملأ كل فلسطين بالأمل والرجاء، تماما كالبرق سطوعا ليست انطفاءته إلا ميلادا للحياة.
إن التجاوب الشعبي المدهش الذي ولده استشهاد المهندس يؤكد أكثر من معنى ويشير إلى أكثر من دلالة فهو:
أولا: استفتاء عفوي بأن خيار الجهاد والمقاومة لا يزال في قلوب أبناء فلسطين.
ثانيا: أثبت الشعب الفلسطيني بأن من يعطي فلسطين بإخلاص وأمانة كعماد عقل ويحيى عياش وعوض سلمي وأسامة حلس وغيرهم يجد صدى أفعاله لدى الجماهير مجسدا في تشييع عماد ويحيى.
ثالثا: إن كرة اللهب البشرية التي اندفعت لوداع المهندس هي في إحدى صورها تعبير صريح عن حالة الغضب ومشاعر الاحتقان التي يكنها الفلسطينيون لعدوهم